المدينة بعين كوفارسكي... متاهة أليفة تبتلعنا في غفلة
الإثنين, 23 مايو 2011
القاهرة - ياسر سلطان

المدن أشبه بكائنات مَهُولة قد تبتلعنا من دون أن ندري. نكون أحياناً تائهين في دروبها. ولعلنا نُمنع من التواصل، أو حتى الخروج من أبوابها. مدن خرسانية كئيبة، تتلوى جدرانها صعوداً وهبوطاً، مشكِّلة تلك المتاهة الكبيرة التى نسكنها. إنها المديــنة وكأننــا ننـظر إليها للمرة الأولى، وهكذا تبدو في مجموعة أعمال غرافيكية تحت عنوان «مدن مرئية»، للفنان الأسترالي دامون كوفارسكي، وتعرض حالياً في قاعة «مشربية» في القاهرة.

تستحوذ المدينة على اهتمام كوفارسكي منذ سنوات، وتشكل موضوعاً رئيساً لأعماله، فهو فنان مهووس بالسفر. زار عشرات المدن والقرى حول العالم، تنقل بين دول شمال إفريقيا والشرق الأوسط، وأقام في مدن عدة في آسيا وأوروبا وأميركا الشمالية. تجول كوفــارسكــي بين تلك المدن ليشاهد ويرسم، وهو يدفعنا إلى تأملها معه، بطــبائعها المتـباينة، فهناك مدن تشعرك بالألفة من النظرة الأولى، في حين تفتقد هذا الشعور حيال مدن أخرى. مدن متشابكة تناطح السحاب، وأخرى مبعثرة وممتدة نحو الأفق، ومع ذلــك تشتــرك جميـعاً في رسم متاهة من الجدران الأسمنتية.

تتصدر قاعة العرض لوحة كبيرة، بالأبيض والأسود، لمشهد في وسط القاهرة. غابة من البنايات يختلط فيها القديم بالحديث، العصري بالتقليدي، ويمتزج الفقر بالغنى. هي متاهة بلا نهاية تأخذنا بعيداً عبر دروبها وجدرانها وأسطحها المسكونة بالمئات من أطباق الاستقبال التلفزيوني. ورغم العشوائية التي رسمها كوفارسكي من أعلى، وبأسلوب عين الطائر، إلا أن شيئاً ملهماً يقفز منها إلى المخيلة، ويدفع إلى التفكير في طبيعة المكان وحقيقة المأوى الذي يتفنن البشر في حمايته من الدخلاء. هي المدينة التي نسكنها وتسكننا أيضاً، لا نستطيع العيش من دونها. هي الوطن والمأوى والملاذ. وها هي، كما تبدو من بعيد، أشبه بشبكة جحور لقطيع من الجرذان.

إلى جانب المشهد الكبير لمدينة القاهرة، ثمة عشرات المشاهد لمدن كثيرة من الشرق والغرب، صور بألوان ترابية لدمشق وإسطنبول ونيويورك وشيكاغو وملبورن. تتكيف المدينة وفقاً للظروف والثقافات. تتغير الهيئة، لكن المدينة تحتفظ بالرهبة والغموض.

تجنَّبَ كوفارسكي في تلك الصور عناصر يبدو أنها، 1306057447194802000.jpg في نظره، تعكر صفو الكيان العمراني في هيئته الهندسية. حتى البشر اختفوا، غير أنك تشعر بأنفاسهم خلف تلك الجدران. هنا غابة من العمارة الأسمنتية والحجرية. تتداخل الخطوط وتشتبك المساحات لتنشئ عالماً هو أشبه ما يكون بالمتاهة، لكنها متاهة أليفة، لأنك تسكن ههنا.

تخرج كوفارسكي، الذي يعيش ويعمل في ملبورن، في قسم الطباعة بكلية فيكتوريا العام 2000، ودرس فن المنمنمات الإسلامية خلال إقامته في باكستان لمدة ستة شهور، وتنقل بين مدن كثيرة حول العالم. عُرضت أعماله بانتظام في أستراليا، كما في الكثير من الدول التي زارها. عمل كرسام مع عدد من البعثات الأثرية والعلمية، وزار مصر في العام 2002، برفقة بعثة أثرية إلى «واحة الداخلة»، كما أقام لفترة في غاليري «تاون هاوس» في القاهرة ضمن مشروع «فنان مقيم».